دراسات

الأمة الإسلامية تحديات وآفاق (الجزء الثالث)


                                        بسم الله الرحمن الرحيم

                    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين

                                  وهل ينهض الإسلام بلا حكومة؟؟

     إن الإسلام لا بد له من حكومة تقيمه وترعاه وتحميه. فالحكومة الإسلامية ضرورة من أجل حفظ العقيدة وحمايتها من عبث العابثين ولهو اللاهين، وخروج المارقين، وزندقة الزنادقة وشُبّه الكافرين، وإقامة حكم الردّة على المرتدين طبقا لحديث رسول الله صل ى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري: «من بدل دينه فاقتلوه» والقتل يحتاج إلى حكومة في الأوضاع العادية.

     والحكومة ضرورية من أجل إقامة العبادات: فالكسالى عن الصلاة يؤدبون، والممتنعون عن الزكاة يعزّرون، وتاركوا للصيام يعاقبون، والمقصرون عن الحج وهو باستطاعتهم يزجرون فلابد للمجتمع الإسلامي من حكومة تحافظ على الأرواح والأعراض وتقيم القصاص والعدل بين الأفراد والجماعات وتحث الناس على الجهاد النبيل... ورحم الله الإمام اللقاني حين يشير إلى هذا الواجب العظيم في جوهرته فيقول:

                           وواجب نصب إمام عدل        بالشرع فاعلم لا بحكم العقل

     ومن الوجوه الدالة على وجوبه بالشرع: أن الشارع أمر بإقامة الحدود وسد الثغور وتجهيز الجيوش وذلك لا يتم إلا بإمام تبايعه الرعية يرجعون إليه في أمورهم. فطاعة الأمير من طاعة الله ورسوله ولا يطاع إلا فيما يرضي الله ورسوله لأنه لا طاعة لمخلوق فيما معصية الخالق. قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ. ﴾(سورة النساء/ 59).

     وفي الصحيحين من حديث الأعمش:" إنما الطاعة في المعروف " وفيهما من حديث يحي القطان:" السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ". وأخرج مسلم من حديث أم الحصين: " ولو أستعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا وأطيعوا ". بهذا يجعل الإسلام كل فردا أمينا على شريعة الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم وأمينا على إيمانه هو ودينه، وأمينا على نفسه وعقله وأمينا على مصيره في الدنيا والآخرة ولا يجعله بهيمة في القطيع، تزجر من هنا أو من هنا، فتسمع وتطيع. فالمنهج واضح وحدود الطاعة واضحة. قال عليه الصلاة والسلام: «من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني». لكنه لا يطاع في الحرام ولا في المكروه وأما في المباح فيطاع وجوبا إن كان في أمره مصلحة عامة للمسلمين. وأما إذا أمر بالكفر فيجب على كل مسلم أن يطرح بيعته جهرا إن أمكن وإلا سرا. فبغير هذا الكفر من جميع المعاصي لا يجوز خلعه عن الإمامة لا جهرا ولا سرا. لأن في خلعه لأدنى سبب مساسا بوحدة الأمة وإيقاد نيران الفتنة والعداوة بين المسلمين. لئن يحكم الأمة الإسلامية جائر خير لها من أن لا يحكمها أحد... فبالإمام تهاب وبدونه تهان...

     إن الحكومة الإسلامية ضرورية لإقامة ما يلزم المسلمين من علوم وتربية المسلمين على الإسلام وإقامة كل أنظمة الإسلام السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والأخلاقية والثقافية. فالمسلمون لا يطمئنون ما لم تكن لهم حكومة مسلمة وغير المسلمين كذلك لا يؤمنون على حرية العقيدة، ولا على عدل ولا قانون ولا حق ولا مصلحة. فالمسلم في ظل حكومة غير إسلامية معرض إسلامه للخطر ومضطر للطاعة حتى في معصية الله، وفي ذلك تناقض كبير بين العقيدة الإسلامية والسلوك، عدا عن كون ذلك ذلة لا تليق بالمسلم ولا تجوز عليه، إذا جعل الله عز وجل المسلم هو الأعلى قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾( سورة المنافقون/ 08) وقال أيضا: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( آل عمران/ 139) وعندما تكون الحكومة التي تحكم المسلم غير مسلمة فإن في ذلك ذلة له وصغارا وأعلم أن للتقدم البشري مظهران:

     أولا: التقدم في زيادة تسخير الكون لصالح الإنسان

    وثانيا: تقدم الإنسان في مجالات الأخلاق والسلوك والاستقرار والاطمئنان والعدل، ومعرفة الحقوق والقيام بها. ومعرفة الواجبات وقيامها قد تتقدم البشرية بدون الإسلام وتزدهر في الماديات ازدهارا يقضي غالبا بحياة أبنائها ولكنها بدونه تفقد كل أمن وكل الاستقرار.... بحيث ترجع في تصرفاتها إلى عهود الهمجية الأولى والجاهلية الأولى حيث لا حرية إلا حرية الاستعباد ولا عدل إلا عدل الاستغلال ولا قانون إلا قانون الغاب ولابد من رجال انتصروا في معركة الضمير عقيدة وفي معركة الميدان سلوكا إذا أريد للبشرية سعادة الدنيا والآخرة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه رجال لا يخافون في الله لومة لائم، رجال يحبون الإسلام ويحبهم، نعم الإسلام الصحيح لا إسلام الشعارات والعناوين أو إسلام الذين......بما لا يعرفون ويقولون ما لا يفعلون.

     إن الحكومة الإسلامية ضرورية لتبليغ رسالة الإسلام العالمية وإخضاع البشر لسلطان الله وشريعته بلا إكراه على تغير العقيدة كي يتمتع الإنسان والحيوان على السواء برحمة الإسلام، ويتخلص الإنسان بذلك من ظلم الإنسان إذ لا يحقق العدل الكامل إلا شريعة الله. فكل قانون وضع على غير شرع الله ظلم في نفسه والحكم به أدهى وأمر... لأنه بدون شريعة الله يتحكم فرد من أمة في أمة أو تظلم طبقة طبقة بتناوب، وفي كل صورة من صور الحكم تغيب فيها صورة الحكومة الإسلامية وحقيقتها يكون تعبيدُ الإنسان للإنسان حتى في أكثر النظم ديمقراطية، بمثابة حجر أساس لبناء نفق الحضارة الوحشية البهيمية فبلا حكومة إسلامية تكون عرى الإسلام في حالة نقض. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنقض عرى الإسلام عروة عروة فأولها نقضا الحكم وآخرها الصلاة». وما نقضت بقية عرى الإسلام إلا بعد أن نقضت العروة الأولى.

     وما دامت هذه كلها من الواجبات ولا تتم إلا بقيام الحكومة الإسلامية، فقد أصبح قيام حكومة الإسلام فرضا لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب والعمل من أجلها فريضة عينية على كل مسلم يهتم بمصير أمته المجيدة.

     ولا ننسى أن الأصل في تربية المسلم أنها جماعية، والأصل في أخلاقيته القدرة على التلاؤم مع الجماعة، والأصل في الحياة الإسلامية أنها حياة جماعية إلا في حالات استثنائية ضيقة. فعل المسلمين إذا أن يكونوا يدا واحدة وجماعة واحدة وصفا واحدا وأن يتحركوا حركة واحدة من أجل إقامة الإسلام وتحقيق أهدافه الكبرى... فتحقق على أرض الواقع التربية الإسلامية الجماعية في ظل الحكومة الإسلامية. فالبلد المسلم الذي ينفرد ويخرج عن دائرة الأقطار الإسلامية ليطبق بزعمه شريعة الله في حدوده، يعرض أبنائه للفناء والاضمحلال على يد أعدائه شأنه شأن الشاة القاصية التي ترغب عن حماية راعي القطيعة فلا يوجد في وقتنا بلد يطبق شريعة الله لأن الخطب صعب والمشكل عويص والداء عضال وما دواءه إلا بإنشاء مجتمع إسلامي جديد يقوم على العقيدة الصحيحة كما قام في العصور الذهبية.

     إن أحكام النظام الإسلامي لا تصلح ولا تطبق إلا في مجتمع إسلامي، إسلامي في نشأته وفي تركيبه العضوي وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقومات كلها يعتبر "فراغا" بالقياس إلى ذلك الحكم، لا يملك أن يعيش فيه ولا يصلح له، فالعقيدة أساس والأحكام بناء وهل يعقل بناء بلا أساس؟؟ ألا ترى لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم، ولا يرشحون أنفسهم للوظائف السامية ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي يختاروا لمجلس الشورى أو الإمامة أو الإمارة؟؟؟

     إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم... فهم يدركون حقيقة قوله تعالى:﴿ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (النجم/ 32). كما يدركون المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل لا يغري أحدا بالتزاحم عليه اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان الله تعالى. ومن ثم لا يسأل المناصب إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم، وهؤلاء يجب أن يمنعوها امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال في حديث متفق عليه: «إن والله لا نولي هذا العمل أحد سأله (أو حرص عليه)». ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم وإدراك طبيعة تكوينه، المجتمع الذي ظل ولا يزال وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية الصحيحة.




facebook twitter youtube LinkedIn cheikh badaoui el djazairi mail
.
.

٣٠ / أكتوبر / ٢٠٢٤
ALG
GMT + 1

arrow_drop_up