دراسات
الأمة الإسلامية تحديات وآفاق (الجزء الثالث)
دعوة الإسلام الحنيف الى احترام العمران وعدم الفساد
قامت قبل الإسلام أمم توفرت لها جميع أسباب القوة، فراحت توالي الفتوح إلى كل جهة، طلبا للتوسع في الملك والتضخم في الثروة فكانت الطريقة التي تتبعها هي ما تمليها عليها القوة الغاشمة لا أصول العدالة. فكانت تستولي على المدن فتدك عمرانها، وتسلب أموالها، وتستذل أهلها وتولي عليها من يسومهم الذل والظلم.
كما تستذل الآن هنا وهناك الامبريالية العالمية والصهيونية الماكرة أبناء ملتنا في الشيشان والبوسنة وفلسطين وغيرها.. نعم تستذل المستضعفين من المؤمنين على مرأى ومسمع من الدول العظمى التي تدافع عن حقوق الانسان حسب زعمها وتسعى إلى نشر السلام والمحبة بين الناس.. فعن أي سلام تدافع؟ فعن سلام أبنائها الغزاة الغاصبين تدافع و لأجلهم تقاتل و تهاجم، تقتل الأبرياء فتحكم عليهم بالإجرام وعلى أبنائها بالبراءة هذه هي سنة الغزاة في كل عصر ومصر.. وقد أحسنت إيجازها ملكة سبأ بقولها كما حكى عنها القرآن الكريم في سورة النمل: ﴿إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون﴾(34) فهي تعرف أن من طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا مدينة كبيرة أشاعوا فيها الفساد وأباحوا ذِمارها وانتهكوا حرماتها وحطموا القوة المدافعة عنها وعلى رأسها رؤساؤها وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين... وإقامة الدليل على ذلك من التاريخ ميسور فهو حافل بالفظائع التي ارتكبت في كل عصر من أكثر أمم المعمورة .
أما الإسلام فنراه قد حذّر من الفساد في عبارات قرآنية مؤثرة وألوان من البيان فاقتلع جذور هذه الرذيلة من قلوب أهله، وأحلّ محلّها إنسانية لا تعدو عليها الاعتبارات العدائية.
وانظر كيف اعتبر الفساد في الأرض من الجنايات الاجتماعية وحذر منه في آيات كثيرة. قال جلّ علاه تشنيعا على المفسدين: ﴿ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ﴾(البقرة/204-206).
هذا المخلوق الذي يتحدث فيصور لك نفسه خلاصة من الخير ومن الإخلاص ومن التجرد ومن الحب ومن الترفع ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس... هذا الذي يعجبك حديثه، تعجبك ذلاقة لسانه وتعجبك نبرة صوته ، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح ﴿ويشهد الله على ما في قلبه﴾ زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيدا للتجرد والإخلاص، وإظهارا للتقوى وخشية الله ﴿ وهو ألد الخصام ﴾ تزدحم نفسه باللّذذ والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة ولا موضع فيها للحب والخير ولا للرفق والعفو ولا مكان فيها للجود والتجمل والإيثار ولا للتواضع والتضحية.. هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه ويتنافر مظهره ومخبره، هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان، حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء وانكشف المستور وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد الفساد.. وإذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض وأهلك الحرث والنسل ونشر الخراب والدمار وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد... إذا فعل كل هذا ثم ﴿ قيل له اتق الله ﴾ تذكيرا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه أنكر أن يقال له هذا القول.. واستكبر أن يوجَّه إلى التقوى وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب كأنه داعية معصوم من الزلل وأخذته العزة بالإثم.. فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة ورفع رأسه في وجه الحق الذي يُذكَّر به وأمام الله بلا حياء منه وهو الذي كان من قبل يشهد الله على ما في قلبه ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء...
ولقد حذر الله تعالى المسلمين من معاملة الشعوب بالقسوة والجبروت وتخريب العامر من مدنهم لأن هذه تفضي بهم إلى عدم النجاح في شؤونهم الخاصة، ويعرف الذين درسوا تاريخ العصور الماضية أن الأمم أكثر ما أتاها الانحلال من الشعوب التي كانت في حوزتها و التي سامتها سوء العذاب..
ومما شدد الله التحذير منه هو إفساد ما تم إصلاحه في العالم قال جل ذكره في سورة الأعراف: ﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ (56) وزاد تنبيهه بعدم الفساد في الأرض قوة بأن جعل النجاة في الآخرة وقفا على المتأدبين بهذه الآداب الإلهية، قال تعالى في سورة القصص: ﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين﴾(83)، الذين لا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم، ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها، إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم يملأها الشعور بالله ومنهجه في الحياة، أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا ولا يبغون فيها كذلك فسادا.
وإذا كان الإسلام قرر مبدأ الشورى فنراه من جهة أخرى أوجب أن يكون في الدولة الإسلامية جماعة من أولي الحل والعقد يمثلون الأمة وينوبون عنها ويراقبون سياستها ونظم حكمها وهذه الجماعة هي التي قال عنها أصدق القائلين سبحانه في سورة آل عمران: ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ﴾(104) فلابد من سلطة تأمر وتنهى سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله، سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر.. فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان فهذا شطر، أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرئ برأيه وبتصوره زاعما أن هذا هو الخير والمعروف والصواب.
وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى في المدينة المنورة على هاتين الركيزتين المقدستين، وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغا لولا أنه وقع لعُد من أحلام الحالمين، وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة وهي كما قال عنها الإمام الشهيد سيد قطب رحمه الله: قصة وقعت في هذه الأرض ولكنها من طبيعتها من عالم الخلد والجنان"... وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان، اللهم ألهمنا كما ألهمتهم واحشرنا في زمرتهم آمين. يــتــبــع...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اضغط عنا لقراءة الجزء الثاني من الأرشيف