دراسات
الأمة الإسلامية تحديات وآفاق (الجزء الثالث)
السنة النبوية المطهرة وأثرها في الإدارة الإسلامية
السنة النبوية المطهرة هي المصدر الرئيسي الثاني في تعداد مصادر التشريع الإسلامي والسنة لغة الطريقة، وشرعا تعني أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته فتأتي مبيّنة لما ورد في القرآن الكريم من أحكام عامة تارة ولما لم يرد به نص قرآني تارة أخرى. وكونها مصدرا للتشريع يأتي التزاما لأمر الله تعالى حيث قـال: ﴿وما أتاكم الرسول فخـذوه وما نهاكم عنه فانتهـوا﴾(الحشر/7 ).
فهذه القاعدة، قاعدة تلّقي الشريعة من مصدر واحد، تمثل النظرية الدستورية الإسلامية، فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قرآنا أو سنة. والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا شرّعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها سلطان لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان. وهذه النظرية تخالف جمع النظريات البشرية الوضعية، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها، والإمام نائب عن الأمة في هذا. وفي هذا تنحصر حقوق الأمة. فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول عليه الصلاة والسلام في أي تشريع.
فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة، فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلا من أصول ما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا لا ينقض تلك النظرية إنما هو فرع عنها. فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص وألا يخالف أصلا من أصوله فيما لا نص فيه. وتنحصر سلطة الأمة والإمام النائب عنها في هذه الحدود. وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعية. وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله. وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله، كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح !!
ولعلنا حين نتمعن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم نجدها تعبر لنا عن سلوك إداري قويم تغنينا عن البحث عما سواه. ولقد شهد بذلك أعداء الإسلام أنفسُهم في كتاباتهم عن الرسول القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم ونحن إذ نتطرق لهذا الموضوع لم نقصد الحصر وإنما التدليل فقط على أثر هذه السنة العطرة في الإدارة الإسلامية.
أجل لقد كانت سيرته عليه الصلاة والسلام تعبر عن السمو في كل شيء. فلقد كان القائد والمعلم والمربي والزوج وكان الرئيس والإداري والاجتماعي وكان الأب والسيد المطاع وكان العابد وكان الرجل والعسكري والسياسي وكان الداعية إلى الله بالله وكان التاريخ الحافل بالمواقف والمآثر. ولعل ما يعنينا في صدد التدليل على أثر السنة النبوية المطهرة على الإدارة الإسلامية هو أقواله وأفعاله وتقريراته الإدارية وما يتعلق بها من حكم وسياسة وإدارة. يقول الأستاذ المرحوم عباس محمود العقاد في حديثه عن محمد الرئيس ما نصه:" محمد الرئيس هو الصديق الأكبر لمرؤوسيه، مع استطاعته أن يعتزّ بكل ذريعة من ذرائع السلطان. فهناك الحكم بسلطان الدنيا. وهناك الحكم بسلطان الآخرة وهناك الحكم بسلطان الكفاءة والمهابة. وكل أولئك كان لمحمد الحق الأول فيه. كان له من سلطان الدنيا كل ما للأمير المطلق اليدين في رعاياه، وكان له من سلطان الآخرة كل ما للنبي الذي يعلم من الغيب ما ليس يعلم المحكومون. وكان له من سلطان الكفاءة والمهابة ما يعترف به أتباعه أكفأ كفء وأوقر مهيب. ولكنه لم يشأ إلا أن يكون الرئيس الأكبر بسلطان الصديق الأكبر، بسلطان الحب والرضى والاختيار فكان أكثر رجل مشاورة للرجال، وكان حب التابعين شرطا عنده من شروط الإمامة في الحكم بل في العبادة، فالإمام المكروه لا ترضى له صلاة. وكان يدين نفسه بما يدين به أصغر أتباعه ".
لقد برزت الإدارة الحديثة وبرز لها العديد من المبادئ والأسس والأساليب، والتي نجدها مفصلة في السيرة النبوية. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث متفق عليه ورواه ابن عمر رضي الله عنهما: « ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته و الرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه. ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». والإمام هو الخليفة أو الإمام أو الملك أو الرئيس أو الحاكم أو السلطان. ولقد حمل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤولية الحكم والسلطة على أساس عدل وتكافل وتكامل. وذلك لأنه أدرك قبل غيره أن واجب الحاكم هو قبل كل شيء رعاية شؤون الأمة.
ولقد كان يوحي بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعي أو العمل المجتمع الذي يحتاج إلى تدبير، وكان يرسل الجيش وعليه أمير وخليفة أمير وخليفة لخليفة أمير. وفي هذا الصدد يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أبو داود عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: « إذا خرج ثلاثة في سفر فيأمّروا عليهم أحدَهم » وفي رواية أخرى:« لا يحق لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم ». وفي رواية لمسلم قال عليه الصلاة والسلام: « من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمِيتَته جاهلية» وقال أيضا : « من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية » وبلفظ آخر قال صلى الله عليه وسلم: « من نزع يده من طاعة إمامه فإنه يأتي يوم القيامة ولا حجة له » ويقول في شأن عدل الحاكم في حديث متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: « سبعة يظلّهم الله بظلّه يوم القيامة منهم إمـام عادل » .وفي حديث آخر من رواية ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاثة لا ترد دعوتهم، منهم الأمير العادل » .
ولقد كان قوام الرئاسة والإمامة عند الرسول صلى الله عليه وسلم شرطان هما جماع الشروط في كل رئاسة وهما: الكفاءة والحب ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه أبو داود والترمذي: « أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين ». وقال أيضا عليه الصلاة والسلام في حديث أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: « أيما رجل أمّ قوما وهم له كارهون لم تجز صلاته أذنيه ». وإن في ذلك لإقرارا لمبدأ النظام والترتيب أو ما يسمى " بالشخص المناسب في المكان المناسب" وهو من مبادئ الإدارة الحديثة التي وضعها " هنري فايول". وإقرارا لمبدأ المساواة والعدل يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي من طريق أبي مريم الأزدي: « من ولاه الله من أمر المسلمين شيئا فاحتجب عن حاجتهم احتجب الله عنه يوم القيامة » وإقرارا كذلك لخاصية من خواص الإدارة الإسلامية كإدارة ذات كفاءة وجدارة وأخلاق يقول عليه الصلاة والسلام في حديث لأبو يعلى والعسكري وغيرهما عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : «إن الله يحب من العبد إذا عمل عملا أن يتقنه » ويقول في حديث رواه الشيخان عن أبي جحيفة رضي الله عنه: «إن لنفسك عليك حقا وإن لبدنك عليك حقا» وفي حديث أخرجه أبو داود قال عليه الصلاة والسلام عن أرزاق العمل: « من كان لنا عاملا ولم يكن له سكن فليتخذ مسكنا ولم يكن له زوج فليتخذ زوجا ومن لم يجد خادما فليتخذ خادما ومن لم يجد دابة فليتخذ دابة ومن اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق ». وذلك تحقيقا لكون الإدارة الإسلامية إدارة تهتم بالحاجات النفسية والروحية والمادية للإنسان. ولتحقيق خاصية أخرى للإدارة الإسلامية ، يقول عليه الصلاة والسلام : « على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية» ( متفق عليه) وفي حديث أخرجه البيهقي وأحمد والحاكم قال عليه الصلاة والسلام: « من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني» وفي هذا جماع للضوابط التي تقوم عليها الإدارة الإسلامية التي تمتاز بكونها إدارة ذات مسؤولية رعوية وسلطة مطاعة و ذات علاقة حب ورقابة ذاتية بين الآمر والمأمور إضافة إلى العدل والإنصاف والمساواة والرحمة والبر بين الناس يقول عليه الصلاة والسلام في حديث أخرجه أحمد و أبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه: « اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنها ليس دونها حجاب » ويقول أيضا في حديث أخرجه أبو داود : « من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا » . ويقول أيضا عن الرفق في الأمور وعدم التعسير: « إن الله لم يبعثني معنّتا ولا متعنّتا ولكن بعثني معلما وميسرا». وفي رواية أخرى للشيخين قال عليه الصلاة والسلام: « يسّروا ولا تعسّروا وبشروا ولا تنفروا وسددوا وقاربوا».
من هذا نرى جليا أن الإسلام بجانب اهتمامه بإيجاد نظام الكفاءة والجدارة وسبقه العالم في ذلك، يهتم أيضا بأخلاقيات العامل المسلم ويعتبر الأمانة الركن الثاني في إسناد التكليف إلى الأفراد، كما يربط بين الإنسان كعنصر منتج في العمل وبين سلوكه وبيئته الإسلامية.
إن هذا الارتباط بين المنظمة الإدارية وتلك العقيدة هو الذي جعل الإدارة الإسلامية ومنظماتها الإدارية فذة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين وعندما بدأ هذا الارتباط يتقوض بدأت الإدارة ومنظماتها في الدول الإسلامية تسير القهقرى حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من انحطاط وانحلال... ألم يان لأمتنا المجيدة أن تنهض من سباتها العميق وتسترجع هذا الارتباط الذي يجعل من المسلم العامل الذي يرعى الله ويخافه في كل عمل يؤدّيه لنفسه وأهله وأمته ولا يخاف سواه؟؟؟ اللهم احمينا من كل فتنة ومن كل سوء آمين.