دراسات
الأمة الإسلامية تحديات وآفاق (الجزء الثالث)
القرآن الكريم وأثره في الإدارة الإسلامية
القرآن الكريم، دستور الحياة، خاتم الكتب السماوية، المعجزة الخالدة، أنزله الله على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلام ليبقى معجزة خالدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ولئن كانت معجزات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام تحس بالرؤية ومن بعدها بالتأمل وهي حوادث تقع ولا يبقى منها إلا الأخبار بها فلا تعرف على اليقين إلا لمن عاينها وذلك ما أخبر عنه القرآن كمعجزات موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام.
أما معجزة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فلم تكن فقط من هذا النوع وإنما كانت أكبر من حادثة تقع وتزول من غير بقاء لها إلا بالخير والذكر، بل أصبحت خالدة باقية على مر الأجيال تخاطب العقول وتقرؤها الأبصار والبصائر على مر العصور.. وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحاح: " ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن به البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحي به إلي وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة". وهذا مرده كما قال العلامة الإمام أبو زهرة في كتابه "المعجزة الكبرى" أن رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خـالدة ولكل البشر فلا بد أن تبقى معجزة خالدة تقرؤها وتراها وتحس بها كل الأجيال حتى قيام الساعة.
ولقد تحدى الله عزّ وجلّ العرب بأن يأتوا بمثله ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله وذلك إمعان في التحدي وتعجيز للعرب الذين نزل بلغتهم وهم المعروف عنهم الفصاحة والبلاغة.
ذلك القرآن المعجزة الخالدة على مر العصور حتى تقوم الساعة تحدث عن كل شيء وأحاط بكل شيء. تحدث عن العلم وحث عليه، تحدث عن البعث والحساب والعقاب تحدث عن الملائكة عليهم السلام وعن الأنبياء والمرسلين وقصصهم مع أقوامهم، تحدث عن الإنسان – الروح والجسد – تحدث عن الميراث والعلاقات الدولية والرق والأسر تحدث عن العقوبات والفرائض والعبادات، تحدث عن الحكومة ونوعها وصفاتها، تحدث عن الطبقات والمساواة، تحدث عن الإصلاح وبكل معانيه، تحدث عن كل شيء تحتاج إليه البشرية وترك الفروع والأمور التي تتطور مع الزمن.
معجزة خالدة تجسد فيها العديد من المعجزات، ففيه الإعجاز اللغوي وفيه الإعجاز العلمي وفيه الإعجاز التشريعي.. لقد بين القرآن الكريم أمور العقيدة الإسلامية بالتفصيل كما بين العديد من أمور الشريعة بالتفصيل كالميراث والمحرمات من النساء، وأجمل الباقي كالصلاة والزكاة وغيرها، وترك بيان ما أجمل للسنة النبوية المطهرة وترك بيان بعضها الآخر لظروف الناس التي تتغير حسب تغير زمان الناس وأحوالهم وأعرافهم.. ومن ذلك أمر القرآن الكريم بإقامة العدل بين الناس فقط وترك كيفية تلك الإقامة وكيفية القضاء لما يراه الناس أصلح من حيث إقامة المحاكم واختصاصاتُها وطرق التقاضي أمامها. والدليل على ذلك أنه لو نظرنا إلى مجال المعاملات لوجدنا أن الآيات التي تضمنتها لا تزيد عن مائتي آية من مجموع آيات القرآن الكريم وذلك سر إلهي لكي تبقى الشريعة الإسلامية مرنة وصالحة لكل زمان ومكان كما أراد لها الله سبحانه وتعالى.
ولهذا نرى أن مصادر التشريع في الإسلام تنقسم إلى نوعين: أحدهما المصادر الأصلية وهما القرآن ثم السنة وثانيهما المصادر التبعية أو الاجتهاد بالرأي وتشتمل على قول الصحابي والإجماع والقياس والمصالح المرسلة والاستصحاب وسد الذرائع.
والإدارة من الأمور التي أجمل الله سبحانه وتعالى الحديث عنها في القرآن وترك بيان الباقي للسنة النبوية ثم للاجتهاد فيما لم تبينه السنة رغم أنه حدد لها مهام ثابتة لا تحيد عنها وإلا فهي إدارة تعسف وفساد.. ومن هذه المهام نشر الدين الإسلامي بالحكمة والموعظة الحسنة وبالسيف عند الضرورة دفاعا عن العقيدة وأهلها ودرءاً للاستبداد واستعباد خلق الله، ثم تنفيذ شريعة الله في أرضه قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ (الذاريات /56) ثم إدارة المرافق العامة في الدولة قال سبحانه: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ﴾(البقرة /143) ثم تحقيق التنمية الإسلامية الشاملة.
فعلى ضوء هذا التوجيه الرباني، يجب على الدولة الإسلامية أن تكون وسطا كما أمر الله سبحانه وتعالى، تعطي للقطاع العام ما يجب أن تضطلع به وتعطي للقطاع الخاص ما يناسبه وتراعي في كل ذلك حاجيات العباد وظروف تطور البلاد وتقيم التوازن بين القطاعين بلا تفريط ولا إفراط.
إن التنمية وفي كافة مناحي الحياة اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها أصبحت أمل كل الشعوب وهدف كل الحكومات، بما فيها حكومات الدول الإسلامية ولكن هذه الحكومات مطالبة بأن تجد لنفسها النمط التنموي الذي يتلاءم مع معتقداتها ومبادئ دينها الحنيف. وذلك بأن تأخذ عن الآخرين كما أخذوا عنها بالأمس في عنفوان شبابها، تأخذ عنهم ما تنمي به مصادرها الذاتية ولكن دون أن يخل هذا الأخذ ولا يمس جوهر ديننا الحنيف.. وعليه فالإدارة العامة في الدول الإسلامية والتي يوكل إليها النهوض بأعباء التنمية مطالبة بأن تعي ذلك وتعمل من خلال أمر الإسلام ونهيه، تأخذ ما يناسب وتترك ما لا يناسب.. مطالبة أن تأخذ عن الآخرين بقناعة وحذر وبصيرة.
وبطبيعة الحال، هناك العديد من المهام التي تدخل في كنف تلك المهام الرئيسية، وهذه المهام تختلف عن الوظائف، فوظائف الإدارة في نفسها وظائف الإدارة المعروفة ولكن بطابع إسلامي يتناسب مع نهج الإسلام ومبادئه السمحة. فالتخطيط مثلا لا بد أن يكون ذا صبغة إسلامية كوظيفة من وظائف الإدارة الإسلامية وكذلك التنظيم وكذلك القيادة وكذلك القرارات وما إلى ذلك ما لا يحصى عده.
يقول سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة: ﴿ الحمد لله رب العالمـين الرحمان الرحيم ملك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهـدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غـير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾(1-7) والمراد بالصراط المستقيم هو صراط المسلمين في عقيدتهم وشريعتهم وإدارتهم واقتصادهم ومجتمعهم، مستقيما في أدائه، مستقيما في سلوكه، مستقيما في نهجه، فهو غير صراط الضالين وهم النصارى وغير صراط المغضوب عليهم وهم اليهود. وفي موضع آخر من القرآن الكريم، المعجزة الخالدة، يقول جل ذكره: ﴿الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ﴾(البقرة /46) هذه إشارة لطيفة من رب العزة إلى أن المسلم في إدارته يخشى الله ويعلم أن الله يراقبه في عمله ويعلم أنه ملاقي ربّه وأنـه راجع إليـه.. وعلى ضوء ذلك يتصرف بأمانة وصدق وجدّ ومثابرة وهذا ما خلق لدى المسلم نوعا من الرقابة الذاتية مواضع عديدة نرى فيها ونلمس أثر القرآن الكريم في سمو الفكر الإداري الإسلامي وميزات الإدارة الإسلامية عمّا عداها من الإدارات التي تستند وتركز إلى نظم وضعية. يقول سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: ﴿يا بني أدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾( 35 ).
اتق الله في كل عمل تقوم به وأصلح.. وأي شيء أروع من الإصلاح. الإصلاح في كل شأن من شؤون الدين والدنيا. كل إصلاح يتلاءم مع شريعة الله يدخل في نطاق هذا الإصلاح المأمور به ابن آدم. ويقـول عزّ وجلّ: ﴿وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾(الأنفال" /46) ماذا لو استمع المسلمون اليوم لهذا التوجيه الإسلامي الرباني الكريم وماذا لو فعلت الإدارات في الدول الإسلامية به؟ وعلى أي حال سيصبح وضع العالم الإسلامي وأحوال المسلمين؟
إننا وللأسف نحن المسلمين لم نتمسك بذلك، تنازعنا فذهبت ريحنا وأصبحنا مطمع كل مطامع ومحل تجارب واستيراد كل ما يرديه الغرب أو الشرق من فكرة واقتصاد وسياسة وإدارة وضياع وتمزق.
أي دين كالإسلام يحث على العمل للدنيا والآخرة، وأي دين يكرم العامل والعاملين ويعدهم بالجنة والفوز الكبير إن عملوا العمل الصالح ؟؟ وتأمل رحمك الله قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: ﴿ قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ﴾(47)، تخطيط لعمري وضعه نبي الله يوسف عليه السلام بعد بلاء السجن الطويل، وضعه للدولة الفرعونية لتتجاوز الأزمة المقبلة إلهام رباني ليوسف عليه السلام تولى بعده يوسف الصديق مقاليد إدارة البلاد فقام بالتنظيم والإدارة على خير ما يرام وتجاوز بالبلاد شرور الأزمة الاقتصادية التي كانت تهدد البلاد.
وفي موضع آخر يقول عزّ وجلّ: ﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ﴾(النحل - 90/91).
فالله يأمر بالعدل في الحكم ويأمر بالعدل في الإدارة وفي التوزيع وفي القضاء، يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن كل منكر، والمنكر ما يتنافى مع الإسلام وروحه ويأمرنا أن نفي بالعهد إذا عاهدنا وينهانا عن نقض الإيمان.. فهذا سمو إداري لا تضاهيه أرقى وأحدث النظم الإدارية مهما بلغت من رقي وتقدم... وكم كان نقض العهود سببا في اندلاع حروب فتاكة بين دولتين أو شعبين كانا بالأمس كالجسد الواحد ...
يعلّمنا القرآن الكريم أن الكل مسؤول عن عمله، ﴿فلا تزر وازرة وزر أخرى﴾ ويأمرنا أن نتحاكم إلى الله ورسوله في منازعاتنا لا إلى الطاغوت قال سبحانه: ﴿إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون﴾(النور /51).. فما بالنا عن المسلمين اليوم، نتحاكم إلى أعداء الإنسانية ونرضى بما قرروه من أجلنا وما خططوه لنا، ونعتقد بسذاجة عقولنا أن الأحسن لنا ما استحسنوه والقبيح ما استقبحوه .. فأين اليقظة التي حثّ عليها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين " ؟.. وقد لدغنا مرات ومرات .. وما زلنا نلدغ إلى أن يأتي أمر الله !! إلى أن نكون رحماء بيننا وأشداء على أعدائنا، يُوقر فينا الكبير ويُرحم فينا الصغير ويُعلّم الجاهل ويُطعم الجائع ويُسقى الظمآن إلى أن نكون أمة شورى نتناصح ونقبل النصيحة، نقول ونفعل ولا نفعل إلا ما يرضي الله ورسوله نقوم بالله ولا نخاف في الحق لومة لائم ..
ذلكم هو نموذج رائع دائم خالد للإدارة والتي مهما تقدمت الإدارات الغربية فلن تسمو إلى مرتبة ما جاء به القرآن من نظم إدارية فريدة .. وليتنا نعي ذلك أبناء الإسلام !!
والله أسأل أن يوفقنا لصالح العمل ويجنبنا مزالق الزلل ويعافينا من جميع العلل آمـــــــين.