دراسات

الأمة الإسلامية تحديات وآفاق (الجزء الأول)


     وفي العصر الحديث ضعفت الأصول السابقة في مفهوم الأمة عند غيرنا وأصبحت التجمعات البشرية تغلب عليها عوامل المصلحة أو الفكر أو الاتجاه السياسي أو الاقتصادي وضعفت فكرة الوطن أو التجمع في دولة بعناصرها الثلاثة المعروفة في القانون الدولي العام، وهي الأرض والشعب والسلطة كما ضعفت الاعتبارات العرقية أو القومية باعتبارها عناصر موحدة أو مجمعة لأمة من الأمم. وأصبحنا نجد أسسا جديدة تجمع بين المجموعات الهامة والفاعلة والظاهرة في العصر الحديث. فرأينا مثلا مجموعة "شعوب الاتحاد السوفياتي" وليس "الأمة الروسية" أو "الأمة السلافية" وهذا تجمع ضخم من البشر مختلف العرق والأصل واللغة وغيرها من العوامل القديمة ولكن يجمع هذه الكتلة "الفكر" أو "النظرية" الماركسية بما تحمله من معان سياسية واقتصادية واجتماعية وكذلك نجد تكتلا في أوروبا بين شعوب وبقايا أمم قديمة بدافع المصلحة البحتة لهذه الشعوب تحت اسم مجموعة "دول السوق الأوروبية المشتركة" وأصبحت العوامل العرقية الأممية القديمة لهذه الشعوب منبوذة في كثير من الأحيان.

     وفي أمريكا، شمالا وجنوبا لا نجد أمما بالمعنى العرقي والقومي القديم... بل نجد مجموعات كبيرة من البشر من سلالة المهاجرين من أوروبا وغيرها مع اختلاف في الأجناس والعروق وأصبحت تربطها في العصر الحديث فكرة "الدولة" القائمة على جزء من الأرض تسمى وطنا مع الشعب والسلطة القائمة على شؤون هذا الشعب، وليس فكرة الأمة بمفهومها القديم. واختلف حجم هذه المجموعات البشرية بين دولة وأخرى كالولايات المتحدة وكندا والبرازيل وغيرها من التجمعات والدول الأمريكية الشمالية أو الجنوبية أو الوسطى، وحتى الهنود الحمر الذين كانوا يشكلون قديما  "أمة  على الأسس العرقية والقومية" ضعف شأنهم في العصر الحديث فأصبحوا من بقايا "أمم التاريخ" وهكذا في آسيا وباقي قارات العالم التي طغت فيها فكرة "الدولة" بعناصرها المادية على فكرة "الأمة" بمقوماتها العرقية أو القومية حتى اليهود تخلوا تقريبا عن فكرة "الأمة" التي كان يجمعها العرق والجنس كسلالة تنسب إلى بني إسرائيل وتدين بالدين اليهودي، وتسلطت عليهم فكرة "الدولة" التي تكالبوا على تشكيلها بعد شتاتهم في بقاع الأرض، وإن كانت هذه الدولة تحمل في طياتها عوامل فنائها وانقراضها طال المدى أو قصر ولكن اليهود غمضوا أعينهم عن كل هذه العوامل والحقائق فرحا بقيام دولة لهم. قال جل وعز في شأن هذه الشرذمة البغيضة: ﴿وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم... وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون﴾(سورة الأعراف/167-168).

     فهو إذن الأبد الذي تحقق منذ صدوره فبعث الله على اليهود في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب والذي سيظل نافذا في عمومه فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة الناكثة العاصية التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية ولا تتوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف..

     فهذا شأنهم في كل بقعة وفي كل حين وشأن الذين يحبونهم ويتولونهم حتى من أبناء الأمة الإسلامية الذين يخدمون الصهيونية من داخلها وكل فكرة لها علاقة بالإلحاد والإباحية الانحلال باسم الحرية والعدالة الاجتماعية وهم بعداء عن سبيل الحرية فضلا على موطنها ورياضها. نعم شأنهم أبتر وأقطع لا بركة فيه يعيشون غرباء وهم مع شعبهم يعيشون كالوحوش الضارية فلا أحد يثق فيهم حتى أنهم يفقدون الثقة في نفوسهم. فهذا شأن كل من حارب الله وسعى في الأرض الفساد فإن الله له بالمرصاد ولن تجد له وليا ولا نصيرا.

     أما الأمة الإسلامية فهي وطن لمن كانت عقيدته عقيدة التوحيد الخالص لأن الرسالة المحمدية شاملة وعادلة ليست إلى قوم دون قوم أو جنس دون جنس أو إلى عرق دون عرق فهي إلى الناس أجمعين قال جل وعز: ﴿وما أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا﴾(سورة سبأ/28). وقال جل ذكره: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾. 

     ليست الغاية من خلق البشر أجناسا وألوانا، وشعوبا وقبائل هي التناحر والخصام، إنما هي التعارف والوئام. فليس للون والجنس والعرق من حساب في ميزان الله، وإنما ميزانه في تفضيل هذا على ذلك قوله تعالى:" إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وهكذا تسقط جميع الفوارق وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر من الميزان. تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس، ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله، وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت، وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء، وكلها جاهلية عارية من الإسلام.

     لقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية الله وحده، وكل ما سواها رايات زائفة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كلكم بنوا آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان". وقال صلى الله عليه وسلم عن العصبية الجاهلية: "دعوها فإنها منتنة" رواه مسلم.

     فعلى هذا المبدأ الرباني يقوم المجتمع الإسلامي: كل من يُعلن إسلامه ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مسلم بأتم المعنى، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم وإن كان عبدا حبشيا أو شخصا أعجميا.. فهو مؤمن لا يكفره أحد وإن أتى بكبيرة إلا إذا جحد ركنا من أركان الدين وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع منافقي المدينة معاملة الإسلام لأنهم أبدوا إسلامهم مع أن الله عز وجل أطلعه على خبايا سرائرهم.. ولما مات سيد المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول صلى عليه الرسول صلاة الجنازة واستغفر له حتى نهاه الله تعالى بقوله: ﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون﴾(التوبة/ 84). ومن ينته ظاهره منهم مع المسلمين بموت أو قتل يبدأ باطنه مع الله: فيجازيهم بما انطوت عليه نفوسهم الخبيثة.




facebook twitter youtube LinkedIn cheikh badaoui el djazairi mail
.
.

١٨ / أكتوبر / ٢٠٢٤
ALG
GMT + 1

arrow_drop_up