دراسات

الأمة الإسلامية تحديات وآفاق (الجزء الأول)


 الأسس التي قام عليها المجتمع الإسلامي الأول

     لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة شرع عليه الصلاة والسلام في بناء المجتمع الإسلامي الجديد بعد أن تم بناء الفرد المسلم في مكة. وكانت الظروف مواتية لبناء هذا المجتمع. إذ كان المسلمون يمثلون الكثرة الغالبة لسكان المدينة المنورة، فكانوا يتكونون من المهاجرين من مكة الذين فروا بدينهم من طغيان المشركين وجبروتهم وكذلك من أهالي المدينة الأصليين من قبيلتي الأوس والخزرج، ممن طفقوا يدخلون في الدين الجديد وكانوا يسمون بالأنصار.

     فكان المجتمع الإسلامي الأول يتكون من المهاجرين والأنصار، وكان بالمدينة أيضا بعض اليهود وهم بقية بني إسرائيل يضاف إليهم من تهوّد من العرب. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى صفته الدينية هو القائد والمعلم لهذا المجتمع، فأخذ في بنائه على أسس سليمة تضمن لهذا المجتمع التقدم والازدهار والتصدي لحمل أعباء الدين الجديد... وأهم هذه الأسس هي تقوى الله والمؤاخاة والمساواة والأسوة الحسنة وتنظيم العلاقات بين المسلمين وغيرهم.

* تقوى الله

     كان أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة المنورة هو بناء المسجد، وقد شارك صلى الله عليه وسلم بنفسه في هذا البناء. وكان هذا العمل يرمز إلى أهمية المسجد في حياة المجتمع. والمسجد هو بيت الله وهو المكان الذي يتردد عليه المسلم خمس مرات يوميا يناجي ربه ويقف بين يديه متضرعا إليه راكعا ساجدا، مهللا ومكبرا ومن هنا تغرس في قلبه تقوى الله سبحانه وتعالى.

     والتقوى هي خير زاد يتزود به المسلم في حياته، قال تعالى:﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب﴾(البقرة/197). والتقوى زاد القلوب والأرواح منه تقتات وبه تتقوى وترف وتشرق، وعليه تستند في الوصول والنجاة، وأولوا الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى وخير من ينتفع بهذا الزاد.

     ولم يكن المسجد مكانا للعبادة فحسب وإنما كان مركزا لنشر الدعوة الإسلامية وتعليم المسلمين أمور دينهم، كما كان المسلمون يجتمعون فيه للتشاور في شؤون الدين والدنيا معا وكان المسجد هو المقر الدائم للرسول صلى الله عليه وسلم، فيه يؤم المسلمين للصلاة، وفيه يعلمهم أمر دينهم، ومنه ̉يصدر القرارات المختلفة لتنظيم المجتمع الجديد، وفيه ̉تربى النفوس والأرواح على تقوى الله جل شأنه، يعنى على الإخلاص في العبادة والإتقان في العمل والصدق في المعاملة ومحاسبة النفس عن كل صغيرة وكبيرة... فمن هذا الأساس الأول نشأ هذا المجتمع قويا لا تهزه الأعاصير، صلبا لا تؤثر فيه الأزمات والمحن، متماسكا لا تنال منه الفتن. وصدق الله إذ يصفه بقوله: ﴿أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظـالمين﴾(التوبة/109) وما سوى هذا البناء الراسخ المطمئن، بناء قائم على حافة جرف منهار، ينهار وينزلق ويهوي بأصحابه في هوة جهنم وبئس القرار.

* المؤاخاة

     من المبادئ التي طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة المنورة مبدأ المؤاخاة بين المسلمين. فقد آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار كما آخى بين المهاجرين بعضهم بعضا وكذلك بين الأنصار أنفسهم. وكان لهذه المؤاخاة شأن كبير في ترابط المجتمع الإسلامي الأول وتضامنه، فهذه الأخوة في الله هي أقوى رابطة من الأخوة في النسب.

     وقد جعلت هذه المؤاخاة المجتمع الإسلامي كأنه أسرة واحدة، كما أنها قضت على نزعات التعصب للقبيلة الواحدة، ونزعات الصراع بين القبائل. فقد كانت هناك حروب بين قبيلتي الأوس والخزرج قبل الإسلام، ولكن بفضل هذا الدين الحنيف أصبحت القبيلتان أمة واحدة... وقد من الله عليهم بهذه النعمة في قوله جل ذكره: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكـروا نعمـت الله عـليكم إذ كنتم أعـــداء فألّف بـيـن قـــلوبكم فأصبحتـم بنعـمته إخوانا وكنتم على شفــا حفـــرة من النار فأنقــــذكم منها كذلك يبين الله لكــم آيـاته لعــــلكم تهـتـدون ﴾. (آل عمران/103).

     هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى. وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائما. وهو هنا يذكرهم هذه النعمة، يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية "أعداء" وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد. وهما الحيان العربيان في يثرب، يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعا. ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه ولا تعيش إلا معه... مجال تفرقة أمتنا إلى دويلات وأحزاب باسم الحرية والديمقراطية، مجال يفتح للفن واللعب أبوابه على مصراعيه ويغلق كل نافذة في وجه من يريد أن يتعلم أو أن يبحث في العلوم... مجال يجعل اللاعب يكرم والبــــاحث يهان... وما كان إلا الإسلام وحده يجمع القلوب المتنافرة... وقد جمعها بالفعل على محبة الله ورسوله... 

     ونحن إذا رجعنا إليه مخلصين أنقذنا من هذه الهوة التي نتخبط فيها منذ قرون حيارى تائهين كما أنقذ أمما من قبلنا وألف بين قلوبنا كما ألف بين قلوب أسلافنا الأطهار لأنه حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمته إخوانا. وكانت لهذه الأخوة في الله حكم الإخاء في الدم والنسب من حيث التوارث والتعاطف إلى أن نزل قوله تعالى في آخر سورة الأنفال: ﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم﴾.

     ولا شك أن هذه المؤاخاة قد قامت بدور كبير في تماسك المجتمع الإسلامي في هذه المرحلة الدقيقة من مراحل الدعوة الإسلامية، وجعلته قادرا على مواجهة التحديات التي كانت تنتظره والأخطار التي كانت تتربص به من مشركي مكة ومن المنافقين ومن اليهود.




facebook twitter youtube LinkedIn cheikh badaoui el djazairi mail
.
.

١٨ / أكتوبر / ٢٠٢٤
ALG
GMT + 1

arrow_drop_up