دراسات

لبّيك ياقـــدس ( الجزء الرابع والأخير)


     إن المؤمنين يحتملون الألم والقرح في المعركة ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يحتملونه. إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء.. ولكن شتّان بين هؤلاء وهؤلاء.. إن المؤمنين يتوجهون إلى الله بجهادهم ويرتقبون عنده جزاءهم، فأما الكفار فهم ضائعون مضيعون، لا يتجهون لله ولا يرتقبون عنده شيئا في الحياة ولا بعد الحياة .. فإذا أصرّ الكفار على المعركة فما أجدر المؤمنين أن يكونوا هم أشدّ إصرارا، وإذا احتمل الكفار آلامها، فما أجدر المؤمنين بالصبر على ما ينالهم من آلام. وما أجدرهم كذلك أن لا يكفوا عن ابتغاء القوم ومتابعتهم بالقتال، وتعقب آثارهم، حتى لا تبقى لهم قوة، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدّين لله. وإن هذا لهو فضل العقيدة في الله في كل كفاح، فهناك اللحظات التي تعلو فيها المشقّة على الطاقة، ويربو الألم على الاحتمال ويحتاج القلب البشري إلى مدد فائض وإلى زاد، هنالك يأتي المدد من هذا المعين، ويأتي الزاد من ذلك الكنف الرحيم. قال تعالى: " ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما" (النساء /104).

     فيأمرنا الله تعالى بالصبر على كل بلية وفتنة ومصيبة، وبمصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين. فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى. وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق فما أجدر الحق أن يكون أشدّ إصرارا وأعظم صبرا على المضي في الطريق. ويأمرنا القرآن الكريم بالمرابطة وتعني كما قلنا الإقامة في مواقع الجهاد وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء.

     ومن هذه الثغور نصب خليفة على المسلمين ليجمع شملهم بعد شتات ويوحدهم بعد تفرقة. فبالإمام تستطيع الشعوب الإسلامية استرجاع كنوزها المادية والبشرية من أيدي أعدائها الغاصبين. وبالإمام تزيل عن أبنائها داء الفقر والمرض والجهل والطغيان وبالإمام تقام حدود الله وتصان حرمات الناس ويعيش الجميع في أمن وحرية وازدهار.. وبالإمام ينشأ جيل لا يعرف للإلحاد سبيلا ولا إلى الإباحية نهجا. جيل يشتاق إلى التضحية لأجل القضايا العادلة كما يشتاق الظمآن إلى الماء المعيــن، جيل لا يترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه...

    وإذا كان الرباط نوعا من الجهاد فلا شك أن ثوابه عظيم ولذلك تعددت الأحاديث في بيان فضل المرابطة وثوابه والتي منها:                                                                                        

- عن سهل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها". (رواه البخاري ومسلم).

- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله". (رواه الترمذي والنسائي).

- وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة".(رواه أبو داود والترمذي).

- وقال صلى الله عليه وسلم : "من قُتل مجاهدا، أو مرابطا حرّم على الأرض أن تأكل لحمه ودمه، ولم يخرج من الدنيا حتى يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وحتى يرى مقعده من الجنة وزوجته من الحور العين وحتى يشفع في سبعين من أهل بيته ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة". وفي حديث أبي أمامة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن صلاة المرابط تعدل خمسمائة صلاة ونفقة الدرهم والدينار منه أفضل من سبعمائة دينار ينفقها غيره". (رواه البيهقي).

     كما أن الجهاد أنواع، فالمرابطة كذلك أنواع فكل من يسهر على سلامة الوطن الإسلامي من أخطار المعتدين وعلى نفع المسلمين بما يستطيع وإغاثة غير أبناء ملّته من الملهوفين ورد المظالم إلى أهلها ودعوتهم إلى الإصلاح والفضيلة يعتبر مرابطا عند الله وعند الناس والله ذو الفضل العظيم.

     أنظـر كيـف كـان المرابطون الأولـون، كانـوا يتجنبـون التعسف بالمهزومين واستذلالهم بل كانـوا يرحمونهم ويكفـون عن قتلهم ويكتفـون بأسرهم وتخييرهم بين الإسلام أو البقاء على دينهـم ودفـع الجزية لحمايتهـم وذلك امتثالا لأمر الله تعالى: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإما مَنًّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها"(محمد /4). والمن هو الإطلاق بدون مقابل والفداء يكون بالمال أو بمقابلة أسير، وكل ذلك فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألم يقل لكفار مكة يوم فتحها "اذهبوا فأنتم الطلقاء"؟ .

     والله أسأل وهو أكرم المسؤولين وأرحم الراحمين أن يبارك في هذا التأليف ويجعله حافزا للمجاهدين ومعينا للجائعين ودليلا للتائهين وملجأ للقاصدين وأن ينفعنا بما علّمنا وأن لا يجعل نعمه حجة علينا وأن يحقق رجاءنا في كرمه لنا ولسائر المسلمين ولإخواننا المؤمنين المكلفين من الثقلين إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

     اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وسلام على المرسلين والحمد الله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اضغط هنا لقراءة الجزء الثالث من الأرشيف




facebook twitter youtube LinkedIn cheikh badaoui el djazairi mail
10
.
رجب
.
1446

١٠ / يناير / ٢٠٢٥
ALG
GMT + 1
12:18:44
arrow_drop_up