دراسات
لبّيك ياقـــدس ( الجزء الرابع والأخير)
الخاتمة
إن شهر رمضان شهر إذا صمته إيمانا واحتسابا صعد بك من الجهل إلى العلم ومن الضعف إلى القوة ومن الكبر إلى التواضع ومن البخل إلى الإنفاق ومن المعصية إلى الطاعة ومن القلق إلى الاطمئنان والصبر ومن الظلام إلى النور "يهدي الله لنوره من يشاء". فبالصوم تعرف للاستقامة معنى وللتقوى طعما ولمناجاة الرحمن ذوقا، فالله جل وعز عند المنكسرة قلوبهم الخاشعين في صلاتهم، وهل صلاتهم إلا اتصال بالمحبوب جل وعلا، وهذه من أرقى درجات الإحسان. والواقع أن صاحب الأخلاق القرآنية يستطيع أن يجد للإحسان[2] مكانا وكيانا في كل الأحوال لأن الإحسان مطلوب في العبادة ومعناه الإخلاص في العبودية لله جل شأنه، ومطلوب في القول ومعناه الصدق والكلم الطيب، ومطلوب في العمل ومعناه الإتقان وفي المظهر كالثياب، فهو مطلوب أيضا في التحية الإسلامية قال تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) (النساء/87)..ومطلوب في سائر العبادات: في الصلاة بتحقيق السكينة والخشوع فيها، ومطلوب في أداء الزكاة ومعناه الإنفاق من الطيبات للفقراء والمساكين، ومطلوب في الصوم بإخلاص النية والامتناع عن المفطرات الحسية ومنع الأعضاء عن استخدامها فيما لا يليق بالمسلم، ومنع العقل والقلب عن خواطر الإثم وأفكار السوء. والإحسان في الحج مطلوب بالتجرد في الرحلة إلى الله تعالى والاستغراق في معاني ضيافة الله عز وجل للحجيج الصادقين.
هذا وللصوفية رضي الله عنهم عن فضيلة الإحسان أحاديث ذات تحليل وتفصيل. وها هو ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين" يذكر من عناصر الإحسان قول القائل "أن تجعل هجرتك إلى الحق سرمدا" ويعلق على ذلك بقوله: "لله على كل قلب هجرتان وهما فرض لازم له على الأنفاس: هجرة إلى الله سبحانه وتعالى بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والعبودية وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالتحكيم له والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه، وتلقى أحكام الظاهر والباطن من مشكاته فيكون تعبده به أعظم من تعبد الركب بالدليل، الماهر في ظلم الليل ومتاهات الطريق.
فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحث على رأسه الرماد وليراجع الإيمان عن أصله، فيرجع وراءه ليقتبس نورا قبل أن يحال بينه وبينه، ويقال له ذلك على الصراط من وراء السور والله المستعان" اهـ وهذا ما يرمي إليه الحديث المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
إن أمتنا الإسلامية المجيدة، عزيزي القارئ، تقوم بعبادة الصيام وهل على أحسن ما يرام؟ كيف رسبت ولازالت ترسب في كل مواد الصيام؟ تصوم كل عام لرب العالمين وهل جنا أبناؤها ثمار صومها؟ تصوم وأبناؤها متحاربون هنا وهناك، تصوم وأبناؤها يتألمون جوعا لايجدون من يطعمهم ولا من يسقيهم جرعة معين وآخرون من أبنائها يشكون البطنة…وهي تصوم..وماذا يعني صيامها يا ترى؟ تصوم وأبناؤها ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، يعبدون الجن والطاغوت وأشربوا في قلوبهم عجل الحضارة الصهيونية الغربية وهم يصومون..تصوم وتأبى الجهاد..ألا تذكر أن رمضان السلف الصالح كان حافلا بالانتصارات بدءا من غزوة بدر الكبرى إلى فتح مكة المكرمة فإلى فتوحات أخرى سجلها التاريخ بأحرف من نور.
نعم فإن جلّ الانتصارات والفتوحات الإسلامية كانت في رمضان، رمضان القافلة النورانية الذين لا يخافون في الله لومة لائم لا رمضان الذين لا يحركون ساكنا ولو ذهب دينهم وعزّهم ولا رمضان الذين يبكون كالنساء وينددون بهجمات الأعداء إذا اقتحموا حصونهم وغوروا ما بقي لهم من مائهم. وهل بقيت حصونهم منيعة كما كانت عليه؟ كلا وألف كلا.
_____________________
[2] أنظر "موسوعة أخلاق القرآن" للدكتور أحمد الشرباصى.