دراسات

لبّيك ياقـــدس ( الجزء الرابع والأخير)


     إن أمتنا الإسلامية تشكوا المرض العضال وعندها علماء كالجبال الراسيات وتشكوا الفقر وعندها أصحاب الأموال والجنات وكيف ذلك يا ترى؟ لأن جلّ علمائنا علماء اللسان يقولون ولا يفعلون ومن الحكام يهابون وأن حكامنا بغير ما أنزل الله يحكمون وعلى مصالحهم يسهرون وأن أغنياءها إلى ملإ بطونهم يتسابقون وأن الرعية منسية فإن أصلحت فلنفسها وإن أفسدت فتقاد بالسلاسل والأغلال إلى محاكم أقيمت للظلم والجدال…

     ألم تجد الأمة الإسلامية من يقودها إلى الحرية والازدهار بسياسة العلم والعدل والحب والمساواة كما قادها من قبل الخلفاء الراشدون وعلى الخصوص عمر بن الخطاب الفاروق الذي شهد عصره من الفتوحات ما يدهش عقول أهـل الألباب: فبعد أن بويع رضي الله عنه بالخلافة [3] عقب وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، صعد المنبر فقال هذه الكلمات القصيرة وهي تنبئ عن سياسته التي ساس بها العرب. قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:"إنما مثل المؤمن كمثل جمل أنف اتبع قائده فلينظر قائده أين يقوده، أما أنا فورب الكعبة لأحملنّكم على الطريق." والجمل الأنيف هو الجمل الذليل المواتى الذي يأنف من الزجر والضرب ويعطي ما عنده من السير، عفوا سهلا. وهذا تشخيص حسن للأمة الإسلامية لعهده فإنها كانت سامعة مطيعة، إذا أمرت ائتمرت وإذا أنهيت انتهت ويتبع ذلك المسؤولية الكبرى على قائدها بأنه يجب عليه أن يتبصر حتى لا يوجه هذه الأمة إلى ما فيه خطر عليها بل يتخير لها أسلس الطرق وأسهلها ولذلك وعدهم مقيما فقال:"أما أنا فورب الكعبة لأحملنّكم على الطريق" ويفهم بالبداهة أنه الطريق الأقوم الذي لا اعوجاج فيه- والطريق الذي يجمع كل القوى فلا يغلب سالكه.

     ولقد أتت في التنزيل المجيد آية تشمل الدعوة إلى كل أنواع القوة[4] المادية والمعنوية، وهي قول الله تعالى في سورة الأنفال الآية 60: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوَّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون).

     وقد ذكر السيد رشيد رضا عن هذه الآية أن الله تبارك وتعالى أمر عباده المؤمنين بأن يجعلوا الاستعداد للحرب التي تدفع العدوان وتحفظ النفوس وتصون الحقوق بأمرين:

     أولهما: إعداد جميع أسباب القوة بقدر الاستطاعة، والقوة هنا قد تكون قوة السلاح أو قوة العلم أو قوة الأخلاق أو قوة اليقين أو قوة الإمداد، لأن كلمة القوة تشمل كل هذه الأنواع وغيرها.

     وثانيها: المرابطة على الحدود والثغور بالجنود المدربين ووسائل الانتقال السريع، وكأن أسرع الوسائل عند نزول الآية هي الخيل. وهذان الأمران هما اللذان تعول عليهما جميع الدول التي ارتقت فيها الفنون العسكرية. ومن المعلوم بالبداهة أن إعداد المستطاع من القوة يختلف امتثال الأمر الرباني فيه باختلاف درجات الاستطاعة في كل زمان ومكان بحسبه. وقد روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم تلا الآية السابقة ثم قال:"ألا إن القوة الرمي"  وكرر ذلك ثلاثا. وهذا إشارة إلى أن أعظم أركان القوة هو الرمي، وذلك لأن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة. وإطلاق الرمي في الحديث السابق يشمل كل ما يرمي به العدو من سهم أو قذيفة أو بندقية أو طيارة أو مدفع أو غير ذلك. وإذا كان بعض هذه الوسائل لم يظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن لفظ "الرمي" يشمله، لأن الحديث لم يقيد الرمي بشيء دون شيء ولعل الله تعالى كما ذكر رشيد رضا قد أجرى ذلك اللفظ على لسان نبيه مطلقا ليدل على العموم لأمته في كل عصر بحسب ما يرمي به في كل عصر[5].

     فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن أن يصنعوا أسلحة القتال الحديثة ليحفظوا هيبتهم وحريتهم أمام أعدائهم ويجب عليهم أن يتعلموا كل الفنون والصناعات التي تمكنهم من صنع هذه الأسلحة والقرآن بعد هذا يقول: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (البقرة/194) ويقول: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة/190).

     وينبغي أن نتذكر أن قوة الإيمان هي أفضل أنواع القوة لأنها هي التي تؤدي إلى مجموعة من الفضائل كالإخلاص وصدق الجهاد وصفاء النيّة وطهارة الطوية.

     ويعلمنا القرآن أن الطريق إلى القوة يكون بالاستعداد من عون الله وقوته ولذلك يقول القرآن في سورة الكهف (لا قوة إلا بالله) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سرّه أن يكون أعزّ الناس فليتق الله، ومن سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده." ومن وسائل تحقيق القوة الحسية والروحية الابتعاد عن الرذائل والفواحش والاعتصام بالفضائل والمحامد، واجتناب ما يوهن حس الإنسان أو نفسه من مسكر أو مخدر أو مفتر، وما يضعف كيانه من ترف وإسراف، فبالفضائل  انتصر أسلافنا على أعدائهم وبالرذائل انهزمنا وصرنا تائهين، فليكن رمضاننا عزيزي القارئ رمضان جهاد بالنفس والنفيس لا رمضان استسلام ومفاوضات على حساب عقيدتنا ومقدساتنا وعزّ أمتنا، وإلا عمّنا مقت الله العزيز الجبار ودخلنا في الوعيد قال تعالى: (كبُر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) (الصف/4.3) وقال عليه الصلاة والسلام: "من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق".

     اعلم عزيزي القارئ، أن الجهاد ليس مقصورا على لقاء العدو، والتحام الجيوش فقط، بل منه أيضا المرابطة والإقامة على الحدود التي يمكن أن يدخل منها العدو إلى بلاد المسلمين. قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" (آل عمران/ 200).

     لقد بين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن فلاح المؤمنين ونصرهم على عدوهم موقوف على الصبر والمصابرة وهي مغالبة الأعداء بالصبر على مشقات الحرب حتى لا يكون من المسلمين ضعف ولا وهن. ثم أمرهم بالمرابطة على ثغور بلاد الإسلام حماية لها من دخول الأعداء كما أمرهم بالتزام التقوى التي هي خشية الله تعالى ومراقبته في السر والعلن، ونتيجتها الحتمية هي معية الله تعالى لهم وإمدادهم بمدد من عنده قال جل وعز في سورة النحل: " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" (الاية /128).

     لقد كانت الجماعة المسلمة في العصور الذهبية لا تغفل عيونها أبدا ولا تستسلم للرقاد. فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة والتعرض بها للناس. وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد حيثما كانت إلى آخر الزمان.. إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي. منهج يتحكم في ضمائرهم، كما يتحكم في أموالهم وفي نظام حياتهم ومعايشهم، منهج خير عادل مستقيم. ولكن الشر لا يستريح لهذا المنهج العادل المستقيم، ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان، ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال، والطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار، والمستهترون باسم الحرية المنحلون لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات. ولابدّ من مجاهدتهم جميعا ولابدّ من الصبر والمصابرة ولابدّ من المرابطة والحراسة كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل.

     هذه طبيعة هذه الدعوة وهذا طريقها. إنها لا تريد أن تعتدي ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم. فلابدّ لها أن تقف في وجه من يكره هذا النظام ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد ومن يحاربها باليد والقلب واللسان.. ولابدّ لها أن تقبل المعركة بكل تكاليفها ولابدّ لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام.

________________________

[3] أنظر "تاريخ الأمم الإسلامية" للشيخ محمد الخضرى بك.

[4] أنظر موسوعة أخلاق القرآن.

[5] أنظر تفسير المنار.




facebook twitter youtube LinkedIn cheikh badaoui el djazairi mail
.
.

٢٢ / ديسمبر / ٢٠٢٤
ALG
GMT + 1

arrow_drop_up