عبادات و إشراقات

رســالة إلى لبيـب (الجزء الرابع)


النصيحة لكتاب الله

     والنصيحة لكتابه أن تتلوه حق تلاوته وتجعله إمامك في الدنيا ليشهد لك في الأخرى، فتُحل بحلاله وتحرم بحرامه، فيمنح لأمتك الصحوة، أعني تحرير فكرها وسلوكها من تقليد المجرمين، وقد أمرك بالعلم قبل العبادة، قال تعالى: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم﴾(سورة العلق/5.4.3.2.1 ).

     فالقرآن يحث أهله على الاستعداد الدائم لمواجهة كل طاغية وكل استبداد وكل عدو لله والرسول قال تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾(سورة الأنفال/60) .    

     فعدُوٌ الله واحد في كل البقاع والأزمان وإن اختلفت وسائل الدفاع والهجوم. ويؤكد لنا هذه الحقيقة الحتمية قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل". فأصبحت الخدمة الوطنية حتمية يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، لأنه لا وجود للمؤمن ولا سعادة لأمته إلا بالجهاد. فأمة المصالح تأبى الجهاد، فتهدم كيانها بنفسها، وتأوي إلى جحر عدوها حيث يجعلها كعصف مأكول. إذ لابد للنهضة من زمن، والصحوة مركزة على أصول الإسلام الحنيف، ولا تنهض الأمة الإسلامية إلا بإيمان صحيح تُتوّجه وحدة ثابتة وكفاية في العيش وأمن واستقرار تتمتع بهما الرعية إذا فهمت أن الإسلام قبل أن يكون دين عبادة فهو دين بر وإحسان وعفة وصدق وغيرة على الوطن ومقدسات الأمة، وذوق وخلق كريم. وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما "أتدرون من المفلس يوم القيامة؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال عليه الصلاة والسلام: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه. أخذ من خطاياهم ثم طرح في النار. أو كما قال...".

     والنهضة لا تقوم إلا بصحة في عقيدة الدعاة وعمق في تفكيرهم ولا تدوم إلا بالانتقاء والشمولية والتوازن، وأعني بصحة العقيدة القدوة الصالحة التي يجب لكل داعية التحلي بها، لأن الدعوة قدوة قبل أن تكون مقالة، والدعوة منهجية في التبليغ، ولا تسلم إلا بالمعرفة والحكمة والسيف عند الحاجة.

     واعلم أن أول ما ينبغي لمن أحب أن يتعلم شيئا من علم القرآن العظيم أن يعرف فيه الناسخ والمنسوخ،  إلا كان كمن أمّ الناس وهم له كارهون. وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه "لا يقض على الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور، أو رجل عرف الناسخ والمنسوخ، والرابع متكلف أحمق".

     والناسخ من كتاب الله على ثلاثة أضرب فمنه ما نُسخ خطه وحكمه، ومنه ما نسخ خطه وبقي حكمه، ومنه ما نسخ حكمه وبقي خطه. فالأول كالآية التي عرّفنا إياها أنس بن مالك رضي الله عنه - بقوله " كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة تعدلها سورة التوبة ما أحفظ منها غير آية واحدة: "ولو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثا، ولو أن له ثالثا لابتغى رابعا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب..." ومثل الثاني ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لولا أكره أن يقول الناس قد زاد في القرآن ما ليس فيه لكتبت آية الرجم وأثبتها، فوالله لقد قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ترغبوا عن آبائكم فإن ذلك كفر بكم، الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم.."... فهذا منسوخ الخط ثابت الحكم.

     وأما ما نسخ حكمه وبقي خطه فهو في ثلاث وستين سورة مثل الصلاة إلى بيت المقدس، والصيام الأول، والصفح عن المشركين والإعراض عن الجاهلين.

     وهل يقع النسخ من كلام القرآن العظيم إلا على الأمر والنهي فقط أم على جميع الأخبار؟ خلاف بين العلماء..  وقال آخرون: وكل جملة استثنى الله منها (بإلاّ) فإن الاستثناء ناسخ لها. وأنكر قوم حكم الناسخ والمنسوخ في القرآن، أولئك الذين ضلوا عن سبيل الله وأضلوا، وعن الحق صدوا وبإفكهم عن الله ردوا. ألم يكفهم قول الله عزّ وجلّ: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾(سورة البقرة/106).

     وقال جلّ ذكره: ﴿وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، قل نزّله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ﴾(سورة النحل/101-102). وفي إثبات الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم دلالة على وحدانية الله تعالى الذي إليه يرجع الأمر كله ويدبر شؤون خلقه كيف يشاء ﴿لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون﴾ (سورة الأنبياء/23). ويقال إن من ورع العالم العامل أن يتكلم ومن ورع الجاهل العامل أن يسكت.




facebook twitter youtube LinkedIn cheikh badaoui el djazairi mail
.
.

٢٢ / ديسمبر / ٢٠٢٤
ALG
GMT + 1

arrow_drop_up