هل حقا قال القرآن بحياة عيسى في السماء؟
مســــــــــلـــم جـــــــــزائــــــــــري |
الســــــــــلام عليــكم شيـــخنــا الكـــــــريم |
هل حقا قال القرآن بحياة عيسى في السماء؟
قرأت موضوعا حول عقيدة بعض المسلمين في عيسى عليه السلام , حيث يقولون أن القرآن قال عن عيسى أنه حي في السماء. و لكن علماء الأمة ينتظرون عيسى ينزل من السماء و يؤدي مهمة إصلاح البشرية ثم يموت و يدفن في الأرض. و القرآن لن يتغير منه حرف واحد. فهل يبقى القرآن يقول بحياة عيسى في السماء و عيسى صار ميتا مدفونا في الأرض؟.
أرجو الرد. لا سيما بالنسبة للناس الذين سيأتون بعد موت عيسى .و شكرا.
رد الشيخ الطاهر بدوي على الرسالة :
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلي و سلم و بارك على سيدنا محمد و على آله و أصحابه و التابعين و من تبعهم إلى يوم الدين.
أخي العزيز! متعكم الله و المسلمين أجمعين بنعمة العافية في الدين و الدنيا و الآخرة آمين
و بعد، ردا على استفساركم حول حقيقة سيدنا المسيح عيسى عليه الصلاة و السلام فاعلموا رحمكم الله أن حادثة رفعه إلى الله تعالى قد ذكرها القرآن الكريم في سورتي آل عمران و النساء.
يقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران " و يمكرون ويمكر الله و الله خير الماكرين. إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك و رافعك إلي و مطهرك من الذين كفروا و جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون" (54-55).
و المكر الذي مكره اليهود الذين لم يؤمنوا برسولهم عيسى عليه السلام مكر طويل و عريض. فقد اتهموا أمه الطاهرة مريم البتول مع يوسف النجار خطيبها الذي لم يدخل بها كم تذكر أناجيلهم الكاذبة ثم اتهموه هو بالكذب و الشعوذة و وشوا به إلى الحاكم الروماني آن ذاك "بيلاطس" أن عيسى هذا مهيج يدعو الجماهير لشق عصا الطاعة و أنه يجدف و يفسد عقيدة الجماهير، حتى سلم لهم "بيلاطس" بأن يتولوا هم أنفسهم عقابه بأيديهم لأنه لم يجرؤ و هو على وثنيته على احتمال تبعة هذا الإثم العظيم مع رجل لم يجد عليه أية ريبة و هذا قليل من كثير... " و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين".
لقد أرادوا صلب عيسى عليه السلام و قتله و لكن أراد الله تعالى أن يتوفاه و أن يرفعه إليه و أن يبعده من ساحتهم النجسة القدرة و أن يكرمه فيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة حيث يرجع الأمر إلى الله تعالى وحده جل في علاه، فأما كيف كانت وفاته و كيف كان رفعه فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي أمرنا أن نؤمن بها فحسب و التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى. فلا طائل إذا كما قال سيد قطب رحمه الله " في الظلال " وراء البحث فيها. لا في عقيدة ولا في شريعة. و الذين يجرون وراءها يجعلونها مادة للجدل الذي ينتهي بهم إلى المراء العقيم الذي لا فائدة ترجى من جرائه.
و أما أن الله تعالى جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة فلا يصعب القول فيه. فالذين اتبعوه هم الذين آمنوا بكل الأنبياء و الرسل و بكل الكتب السماوية المنزلة، الذين يؤمنون بدين الله الصحيح الذي هو الإسلام فلا دين غيره. وقد جاء هو بنفسه مصدقا لما بين يديه من التوراة و مبشرا من بعده بالرسول الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كما قال الله تعالى عنه في سورة الصف (6).
نعم هذا هو الدين الذي عرف حقيقته كل نبي و جاء به كل رسول و آمن به كل من آمن حقا بدين الله تعالى و هؤلاء طبعا فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة في ميزان الله تعالى العدل العليم الخبير.
و في سورة النساء يقول الله سبحانه و تعالى بعد ما حكى عن لغط اليهود و اختلافهم حول مصيره: فمنهم من ظن أنه اختفى عن الأبصار بين أتباعه و منهم من ظن أنه صلب : " إن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم الا اتباع الظن و ما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيما" (159).
و لا يدلي القرآن الكريم بتفصيل في هذا الرفع أكان بالجسد و الروح معا في حال الحياة، أم كان بالروح بعد الوفاة؟ و متى كانت هذه الوفاة و أين؟ و لكنهم ما قتلوه و ما صلبوه و إنما وقع القتل و الصلب على من شبه لهم سواه و قيل إنه على الواشي به. و الله تعالى أعلى وأعلم.
إذن فحادثة الرفع مفروغ منها لا جدال في حقيقة وقوعها. و خاصة أن الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم قد أخبرنا في الصحاح أنه رأى ليلة الإسراء و المعراج سيدنا عيسى و ابن خالته سيدنا يحيى عليهما السلام في السماء الثانية بعد ما رأى أبا البشر آدم عليه السلام في الأولى.
و أما قضية نزول سيدنا عيسى عليه السلام إلى الأرض فكذلك هي قضية لا جدال فيها بدليل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو بنفسه لما أخبرنا عن علامات ا لساعة كطلوع الشمس من مغربها و الدآبة و خروج يأجوج و مأجوج و من بينها نزول المسيح عليه السلام فقال صلوات الله و سلامه عليه في حديث رواه أبو هريرة و أخرجه البخاري و غيره في الصحاح " لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب و يقتل الخنزير و يفيض المال حتى لا يقبله أحد" و في رواية عنه صلى الله عليه و سلم أن سيدنا عيسى عليه السلام هو الذي يقتل المسيح الدجال، الكذاب الأعور عينه اليمنى كأنها عنبة طافيه. هذا الذي أنذرت به جميع الأنبياء و الرسل عليهم الصلاة و السلام أقوامها ليتقوا شره إذا عاصروه. و هذا الذي يغزو الأرض كلها في أربعين يوم : يوم كعام و يوم كشهر و يوم كأسبوع و يوم كسائر الأيام المعروفة إلا مكة المكرمة و المدينة المنورة حيث ترده عنهما الملائكة المكرمون... هذا هو الذي يدعي الربوبية و يأتي بخوارق عدة فيؤمن به ضعفاء الإيمان و أما المؤمنون حقا فيعلمون علم اليقين أن ربهم الله تعالى ليس بأعور و أنه ليس كمثله شيء و هو السميع البصير..
هذا الذي يقتله سيدنا عيسى عليه السلام فتتلاشى كل الملل و تصير ملة واحدة ملة الإسلام الحنيف.
و لكن إعلم أنه لا ينزل بصفته نبيا لأنه لا نبي بعد سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم و إنما ينزل كفرد من أمته يطبق شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم و يكون في صحبته الإمام المنتظر المهدي الذي قيل أنه يصلي بالمسجد الأقصى إماما بالناس و بالمسيح عيسى عليه السلام نفسه. فهو من سلالة آل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا عن جد يعني من نسل أولاد وأحفاد سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه و رضي عنه و سيدتنا فاطمة الزهراء البتول عليها السلام و يعد الإمام المهدي عند إخواننا الشيعة ألإمام الثاني عشر و الأخير ويلقب عندهم بحجة الله في الأرض و يلهجون دوما عند ذكر اسمه داعين الله تعالى :" عجل الله فرجه الشريف".
و القرآن الكريم يقول عن حادثة النزول هذه في سورة النساء " و إن من أهل الكتاب إلا ليومنن به قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا"(159).
فهناك اختلاف في عائد الضمير في قوله تعالى:" موته" موت من؟ فقال جماعة و ما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن حالة احتضاره بعيسى عليه السلام أنه عبد الله و رسوله " و أمه صديقة كانا ياكلان الطعام" كما قال عنهما سبحانه، و أنه ليس ابن الله تعالى و لا ثالثا من ثلاثة أقنام و أحرى أن يكون هو الله تعالى... و أنه لم يصلب و لم يقتل بل رفعه الله إليه و ذلك قبل موته لأن المؤمن و الكافر و الطائع و العاصي كل يرى مصيره قبل أن يغادر الدنيا مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه و من كره لقاء الله كره الله لقائه" و الحديث يؤكد قوله تعالى في سورة فصلت" إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون" (30). و العكس بالنسبة لأهل الضلالة و الغواية.
و هناك جماعة ذهبت إلى أن الضمير بعود على سيدنا عيسى عليه السلام ثم يتوفاه الله بعد نزوله إلى الأرض ليحكم بالعدل بين الناس طبقا لشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كما سبق و يوم القيامة يكون على من خالفوه شهيدا كسائر الأنبياء و المرسلين وذهبت جماعة أخرى إلى أن التأويل يحتمل القولين معا و الله و رسوله أعلم.
و أرجوا منكم في الختام أن تسألوا إن شئتم في هذا الشأن أهل الاختصاص من أهل العلم و أن ترجعوا إلى كتابي بعنوان: " طريقة التلقيح حول حقيقة سيدنا المسيح"الذي نشرته دار الكتب العلمية بلبنان و لها جزيل الشكر على كل الجهاد...و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته....
دمتم لأخيكم الشيخ الطاهر بدوي |