دراسات
الأمة الإسلامية تحديات وآفاق (الجزء الرابع والأخير)
على أن أول من سخر الشعوب المغلوبة واستعبد الأسرى واسترق الأحرار هم الرومان. أما الفرس فكانت معاملتهم للرقيق خالية من كل معنى إنساني، فإن دولتهم كانت تقوم أساسيا على نظام الطبقات: فهي تتألف من طبقة الأشراف "الدهاقين" وطبقة النبلاء "المرازبة" وطبقة رجال الحرب "الأصابذة" وطبقة رجال الدين "الموابذة" وطبقات فرعية أخرى. ولم تكن حال الرقيق أحسن من ذلك عند المصريين والبابليين والبراهمة، فنظام الطبقات كان سائدًا بين الشعوب القديمة كلها. أما العرب فعرفوا من الرق صورًا وألوانا، نقلوا معظمه من غيرهم وابتدعوا في بعضه وتفننوا فيه. وفي هذا الجو المكفهر القائم في العالم كله، وفي تلك الحضارة التي لم تكن تجـد في واحدة منها للرقيق ظلا من كرامة كأنه ليس فردا من البشر، وفي ذلك الوقت الذي كان بعض البشر يتشدق بأن الدم الذي يجري في عروقه لا كالدماء، فهو ملوكـــــي لا عادي أزرق لا أحمر، أو أنه من نسل الآلهة، مخلوق من رأس الإله، بينما خلق سائر البشر من قدميه، وفي الوقت الذي كان السادة يتلهون بقتل العبيد وقبل أن يفكر أحد من الناس أو مذهب من المذاهب بإلغاء الرق أو وضع نظما لتقليله وتخفيفه، جهر الإسلام الحنيف بأن التقوى ميزان المفاضلة بين الإنسان وأخيه الإنسان. فلا يجوز أن يعلو أحد على أحد بعرقه أو جنسه أو لونه من حيث الاستعداد النفسي للتجاوب مع النـــــــــــــتاج الحضاري والثقافي والروحي. وهكذا لم يعترف الإسلام بأن لتفاوت النــــــاس فــــي الألوان والأعراق أثرًا في المواهب العقلية والملكات النفسية.
لقد حرم الإسلام استرقاق المسلمين رجالا أو نساء واسترقاق المعاهدين وغــــير المحاربين له واسترقاق الرجل الحر أولاده من أمته.. فلم يبقى للرق سوى مصــــــــدر أصلي واحد وهو حرب مشروعة تشن على أعداء الإسلام وتسفر عن وقوعهم أسارى في أيدي المسلمين. فإذا لم يفتدوا ولم يمن عليهم كان نصيبهم الاسترقاق. ولا إن أجاز الاسلام بصورة مبدئية استرقاق الأسير فإنما كان منهم ذلك على سبيل المعاملة بالمثل، فإن قانون الحرب السائد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرض هذا الضرب من المعاملة وإلا كان المسلمون رقيقا وأسرى في أيدي أعدائهم، بينما يمنون على عدوهم بالحرية في جميع الأحوال. وواقعية الإسلام تأبى مثل هذا الموقف لمن وصفـــــهم الله بقوله في سورة "المنافقون": "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين".
كان النبي صلى الله عليه وسلم يشتري العبيد ثم يعتقهم، أو يساعد العــــــــــــبيد المملوكين لغيره على شراء أنفسهم وذلك ليضرب للمسلمين مثلا حسنا يقـــتدون به، وكان فوق هذا يرغبهم دائما في العتق ويذكر لهم عظم ثوابه في الآخــرة. وكان صلى الله عليه وسلم إذا مرض لأحدهم مريض أو حل به بلاء، أو تطيّر من أمر كالـــــخوف مثلا، أمره بالعتق لأنه صدقة، والصدقة دواء للأسقام كما جاء فـــــــي الــــحديـــــــث الشريف: " داووا مرضاكم بالصدقة ". وكان صلى الله عليه وسلم يحث على هــــذه الطاعة في قوله: " أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا مــن النار". ويقول أيضا: "أيما رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها وأعتــــــــــقها وتزوجها كان له أجران". على أن الإسلام لم يكتف بالترغيب في العتـــق، وإنــــــما استوجبه في حالات معينة، فهو كفارة عن القتل الخطأ، وعن الظهار، وعن الإفطـار عمدا في نهار رمضان وعن اليمين. وفي هذه الحالة الأخيرة يخير المرء بين إطعـــام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة.
وقد جعل الله في موارد الزكاة التي تساق إلى بيت المال سهما مخصوصا ينفـــق في تحرير العبيد. فكان للعبد الحق في شراء نفسه من سيده بمال يتفقان على تسديــــــد أقساطه في مواعيد معينة وذلك ما يسمى (بالمكاتبة) التي ورد ذكرها في سورة النور عند قوله تعالى: ﴿واللذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيـرا﴾. وعرف الإسلام نظاما آخر للعتق سماه التدبير، وذلك إذا قال السيـــــــــــــد لعبده: "أنت حر عن دبر مني" قاصدا بعد إدباره عن الدنيا، فعتقه حينئذ لازم بمجرد وفاة سيده. والجارية التي تلد لسيدها ولدا تصير حرة ولا يجوز لسيدها بيعها في حياته، وهي أم الولد التي حررها مولد ابنها، ومشى على هذا جمهور الخلـــف والســــلف وأولهم عمر وعثمان رضي الله عنهما، وكذلك من عذب مملوكه أو مثـّل بــه عتــــق عليه. وقد روي أن عبدا "لزنباع" جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مجدوع الأنف، فسأله عن خبره فزعم أن سيده هو الذي جدع أنفه. فلما ثبت للنبي صــــــلى الله عليه وسلم صدقه قال عليه الصلاة والسلام: "اذهب فأنت حر".
وعلى هذا الأساس جعل النبي الكريم الخادم أخًا لسيده أو ابنا، وجعل الخــــادمة أو الجارية أختا لسيدها أو ابنة. وأوصى عليه الصلاة والسلام وصيته المشهورة:" إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من الأعمال مالا يطيقون، فان كلفتموهم فأعـــيـــنوهم ولا يقولن أحدكم: "عبدي ولا أمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي". وحسبك أن الـــقرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرنا نزل بآية المساواة بين البشر: ﴿يا أيــها النــــاس إنــــــــا خلقنـــاكم من ذكر وأنثى وجعلنــاكم شعــوبا وقبـــائل لتعـارفـــوا إن أكرمـــكم عنــــد الــلــه أتقــاكم ﴾(الحجرات13/)...
والمسلمون الأولون عرفوا المساواة الحقيقية بين أشرافهم ومواليهـم بمجـرد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في أول الهجرة، إذ كان حمزة عم النبــي هــــــو وزيد بن حارثة مولى رسول الله أخوين، وكان خالد بن رويحة الخثعمي هو وبــــلال بن رباح أخوين، وكان أبوبكر الصديق وخارجة بن زيد أخوين رضوان الله عـــــــلى الجميع. لقد كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم حرروا نفوسهم وحرروا الإنسانية من كل التبعات لأنهم كانوا لا يغفلون عن أسلحتهم المادية والروحية، ولا يشـــــــــكّون في إمكانياتهم وطاقاتهم ولا فيما أنتجت قرائحهم في شتى ميادين الحياة. كانوا يُرهــــــبون العدو ولا يخافون منه، يدعون إلى الفضيلة بكل ثقة وعزم وصلابة..
وبالجملة كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الشفقة على الرقيق، يوصي بـــــــه خيرا ويمنع الناس من إيذائه وشتمه وتكليفه مالا يطيق ويحضهم على عتقه وقد أثــرت هذه الوصايا أثرا واضحا في أصحابه الكرام وفي الجمهور... فكثر العتق واستقامـــــت معاملة الرقيق، ورأينا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثلا، وهو مـــــن هــــو، يتناوب ركب البعير هو وغلامه حتى وصل بيت المقدس، وكانت النوبة للغـــلام...
ينبغي للجيل الصاعد أن يدرس التراث العربي الإسلامي لأنه متسع كاتساع الرقعة الجغرافية التي نما فيها وازدهر، فهو خصب غني ومتشعب... وعار على المسلمين أن يتعلموا حضارتهم من أعدائهم ويأخذوا يواقيتها من المستشرقين وإن كنا ننوّه بجهودهــم في سبيل الكشف عن علوم العرب وآرائهم ونفثات عقولهم ووجدانهم، في مضانهــــــــا المختلفة، ومواردها المتعددة، واستجلاء ما خفي من أسرارها واستبهم من قضاياها... وبهذه النهضة الفكرية والروحية نحرر أمتنا المجيدة من ربقة الامبريالية التي تسومـــها سوء العذاب وتسلط عليها كل ألوان الاسترقاق... فهل من مذكر؟؟؟