دراسات
الأمة الإسلامية تحديات وآفاق (الجزء الرابع والأخير)
لا تفريط في ديننا ولا إفراط
القصد خلق من أخلاق القرآن الكريم وفضيلة من فضائل الإسلام الحنيف، وله أكثر من دلالة: وهو ضد الإفراط أي ما بين الإسراف والتقتير، ويعني القصد في المعيشة، وقصد الإنسان في الأمر لم يتجاوز فيه الحد، ورضي بالتوسط.. يقال قصد في أمره إذا اعتدل وسلك مسلكا بين المغالاة والتقصير، والقصد هو سلوك الطريق المعتدلة ولذلك قد يطلق عليه اسم الاعتدال إلخ.. قال جلّ علاه في سورة الفرقان مادحا عباد الرحمن الكاملين: ﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما﴾(67) وهذه هي سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات، ويتجه إليها في التربية والتشريع يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال .
والمسلم مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة، ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان، إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين: الإسراف والتقتير. فالإسراف مفسدة للمال والنفس والمجتمع ، والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله، فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية، والإسراف والتقتير كلاهما يحدث اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب، ذلك فوق فساد الأخلاق وقساوة القلوب ، وفي آية أخرى من سورة المائدة يقول سبحانه عن فضيلة القصد والاعتدال: ﴿منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون﴾(66) أي جماعة معتدلة في أمر الدين لا تغلو بالإفراط ولا تهمل بالتقصير، قيل هم العدول في دينهم وقيل هم الذين أسلموا ويضيف الأستاذ رشيد رضا رحمه الله في "المنار" إلى هذا التعريف حقائق أخرى قائلا: "والمعتدلون لا تخلو منهم أمة ولكنهم يكثرون في طور صلاحها وارتقائها، ويقلون في طور فسادها وانحطاطها، وهل تهلك الأمم إلا بكثرة الذين يعملون السوء من الأشرار وقلة الذين يعملون الصالحات من الأخيار، وهؤلاء المعتدلون في الأمم هم الذين يسبقون إلى كل صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء في عصورهم، ومن الحكماء في عصورهم، ولما جاء الإصلاح الإسلامي على لسان خاتم النبيئين والمرسلين صلى الله عليه وسلم قبله المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم، فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين للتوحيد والفضائل والآداب، والمحيين للعلوم والفنون والعمران، فهل يعتبر المسلمون بذلك الآن ويعودون إلى إقامة القرآن وأخذ الحكمة من حيث يجدونها، وعوَد الإصلاح والسيادة من حيث يرونها، أم يفتؤون يسلكون سنن من قبلهم في طور الفساد والإفساد شبرا بشبر وذراعا بذراع ومنه الغرور بدينهم مع عدم إقامة كتابه والتبجح بفضائل نبيهم على تركهم لسننه وآدابه".
ومن مواطن ذكر فضيلة القصد في القرآن الكريم ما جاء في سورة النحل في قوله تبارك وتعالى: ﴿ وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ﴾(9) والسبيل القاصد هو الطريق المستقيم الذي لا ينحرف ولا يلتوى كأنه يقصد قصدا إلى غايته في اعتدال وسداد، بخلاف الطريق الجائر فهو المنحرف الذي لا يوصل إلى الغاية ولا يقف عندها.. والمراد بالآية الشريفة أن الله سبحانه بين الطريق المستقيم المعتدلة بالرسل عليهم الصلاة والسلام الذين أرسلهم إلى البشرية بالبراهين القاطعة ليخرجوهم من ظلمات الوثنية والاستغلال وقساوة الرق إلى نور الإسلام وحرية الضمائر والأبدان.. وعن هذا الاصطفاء يقول جلّ علاه في سورة فاطر: ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير﴾(32) وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه الأمة بكرامتها على الله كما توحي إليها بضخامة التبعة الناشئة عن هذا الاصطفاء وعن تلك الوراثة وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف، فهل تسمع الأمة المصطفاة وتستجيب؟؟ فالفريق الأول ولعله كما قال الإمام سيد قطب رحمه الله، ذُكر أولا لأنه الأكثر عددا "ظالم لنفسه" تربى سيئاته في العمل على حسناته والفريق الثاني وسط "مقتصد" تتعادل سيئاته وحسناته. والفريق الثالث "سابق بالخيرات بإذن الله" تربى حسناته على سيئاته ولكن فضل الله يشمل الثلاثة جميعا، فكلهم انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في الآيات التالية على تفاوت في الدرجات.
وللقصد دلالات أخرى: قال تعالى في سورة لقمان: ﴿واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير﴾(19) يعني: تواضع في مشيك ولا تستكبر ولا تستعجل بــل اعـتـدل واتـئـد، والقصد في المشي يبين هذه المشية المعتدلة القاصدة التي تليق بالإنسان الكيس وتنبغي له، فالقصد من الاقتصاد وهو عدم الإسراف وعدم إضاعة الطاقة الحسية الجسمية في التبختر والاختيال والتثني، فينبغي أن تكون المشية قاصدة إلى هدف لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر بل تتجه إلى غايتها ومقصدها في انطلاق واعتدال.. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يحثنا على هذا الاعتدال في كل شيء بقوله: "الاقتصاد وحسن السمت والهدي الصالح جزء من بضع وعشرين جزءا من النبوة " وبقوله عليه الصلاة والسلام: "ما عال من اقتصد ولا يعيل" أي ما افتقر من لا يسرف في الإنفاق ولا يقْتِر... وفي حديث أخرجه الإمام البخاري رحمه الله قال عليه الصلاة والسلام: "القصد القصد تبلغوا".
وأخرج الإمام ابن ماجه رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يصلي على صخرة فأتي ناحية، فمكث ثم انصرف، فوجده على حاله، فقام فجمع يديه ثم قال : " أيها الناس عليكم القصد عليكم القصد". وروى الإمام ابن حبان رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رهط من أصحابه وهم يضحكون فقال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا "فأتاه جبريل فقال: "إن ربك يقول: "لا تقنط عبادي" فرجع إليهم فقال: "سددوا وقاربوا" وفي رواية للبخاري قال عليه الصلاة والسلام: "سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا" أي الزموا الطريق الوسط المعتدل واقصدوا السداد وهو الصواب ولا تفرطوا فتجهدوا نفوسكم في العبادة لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملل فتتركوا العمل..
وكان صلى الله عليه وسلم يحب القصد في كل ميادين الحياة ويضرب لأمته في ذلك الأسوة الصالحة والقدوة المنيرة: كان يحب القصد في الصلاة والخطبة فكانت صلاته عليه السلام قصدا وخطبته قصدا لا هي بالطويلة ولا هي بالقصيرة وكان يحب القصد في الطعام وهو الذي يقول: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه".
ألا تدري أمتنا أنها ابتعدت عن هذا الخلق النبيل؟
ألا ندرك أن ما أوقعنا في دوامة التناقضات وفي تيه المخالفات إلا ذلكم الإفراط والتفريط والغلو في الدين والتعصب الأعمى للقومية والحزبية، والتشدد والتعسير والتهجير والتكفير؟ حتى صرنا بأبصارنا لا نبصر وبقلوبنا لا نعي وبآذاننا لا نسمع وبألسنتنا لا نتكلم وبجوارحنا لا نبطش ولا حول ولا قوة إلا بالله...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اضغط عنا لقراءة الجزء الثالث من الأرشيف